ثورة 14 أكتوبر: شعلة الحرية ورحلة المجد والانكسار

تفصلنا ايام على الذكرى 62 لثورة 14من أكتوبر المجيدة ثورة الحرية والكرامة والانعتاق، وستضل هذه الذكرى خالدة تتناقلها الاجيال على مرالتارخ، حين أثقل نير الاستعمار البريطاني كاهل أبناء الجنوب، وفي خضم المد التحرري العربي والعالمي، انطلقت شرارة ثورة 14 أكتوبر 1963م، لتلوح بأحد أبرز فصول الكفاح في التاريخ العربي الحديث، لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت إرادة شعب قرر انتزاع حريته من بين ركام إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس،  وكانت شهادة حقيقية على أن الشعوب المتعطشة للحرية لا يمكن لها أن تنكسر.

نقف في هذا المقال عند حدث ربما غاب عن كتابات الكثيرين، وهو جذور الكفاح الذي سبق الرابع عشر من أكتوبر في إطار التوجه الأصيل المتجذر لدى سكان شبه الجزيرة العربية نحو الاستقلال، شهدت مناطق الجنوب مواجهات متقطعة مع المحتل البريطاني، ففي الضالع نفذ الثائر الشيخ حسن علي المرهبي هجومًا انفراديًا بطوليًا على مجموعة من جنود الاحتلال في موقع "رهوة حدة" بالأزارق، فقتل وجرح العديد منهم، كما قام الشيخ محمد عواس في العام 1948م بقتل المستر "ديفي" في غيل الاحمدي، ليأتي بعدها قتل الضابط "سيجر" على يد الشيخ الشهيد عبد الدايم، وتحديدا في العام 1954م، عندما أنهى حياته بسلاحه الأبيض (الخنجر) حين مصادفه في إحدى طرقات الضالع.

لم تكن تلك سوى شرارات أولى، تواصلت وتواترت حتى اشتعلت نار الثورة من جبال ردفان الشماء، معلنة بدء النهاية لوجود استعماري استمر 129 عامًا، وكان الشهيد راجح بن غالب لبوزة أولى شهداء هذا الفصل الجديد، حاملًا بداية النهاية.

لم تكن الرحلة نحو الحرية سهلة، فقد واجهت الثورة أحد أعتى الجيوش النظامية في العالم، مزودة بكل آليات القمع والتنكيل، لكن إصرار الرجال وقوة الإيمان جعلا من كل شهيد شعلة، ومن كل معركة ملحمة تاريخية.

تميزت ثورة 14 أكتوبر بتنوع أدوات كفاحها، فجمعت بين الكفاح المسلح، والإضرابات والمظاهرات السلمية، والعمل الدبلوماسي، وكان اتحاد جبهتي التحرير والقومية رغم اختلافهما الأيديولوجي لاحقًا في ساحة القتال، مثالًا نادرًا على توحيد الهدف في اللحظة الفاصلة الى ان ارتفع علم جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية عاليًا،وغادر آخر جندي بريطاني من عدن، محققًا حلم الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م.

لم تكن لحظة الاستقلال نهاية المطاف، بل كانت بداية لتحدٍ جديد أكثر تعقيدًا، وهو تحدي بناء الدولة، فالثورة التي خاضت معركة وجودية ضد عدو خارجي واضح، وجدت نفسها فجأة في مواجهة تناقضات داخلية حادة وتحديات هائلة.

ورثت الدولة الناشئة، هياكل إدارية مهترئة، واقتصادًا مشوهًا، ومجتمعًا ممزقًا بالانتماءات القبلية والمناطقية، وبرز الخلاف مبكرًا بين تياري الجبهة القومية وجبهة التحرير، ليتحول الاختلاف في الرؤية والفكر إلى صراع على السلطة والمشروعية من الأحق بقيادة الدولة الجديدة؟ ومن هو الأكثر تضحية وفعالية خلال سنوات الكفاح؟.


أدرك الاحتلال البريطاني المتربص، وقبل أن يغادر، أن أعظم انتقام له هو تحويل هذه الأرض المتحررة إلى ساحة للصراع الداخلي، فعمل بدهاء على إذكاء نار الفتنة بين الثوار، مستغلًا الاختلافات الأيديولوجية والطموحات الشخصية.

دفعت أجهزة الاستعمار وبقاياها نحو استئثار تيار الجبهة القومية بالسلطة، وسلمت له مقومات الدولة مشترطة استيعاب العناصر في الجيش الذي شكله (شبر والليوي) وإقصاء فصيل جيش التحرير، وتحولت عدن التي كانت مسرحًا للوحدة الوطنية ضد المستعمر، إلى ساحة للمناوشات السياسية بين التيارين، ثم تطور الأمر إلى مواجهات مسلحة متفرقة.


بلغت الأزمة ذروتها في صيف 1968م، أي بعد أقل من عام على الاستقلال، فيما عُرف لاحقًا بأحداث "الانقلاب داخل الثورة، أو حركة 22 يونيو التصحيحية، حسب الرواية الرسمية آنذاك، شن قادة الجبهة القومية حملة تصفية شاملة داخل أجهزة الدولة ضد منافسيهم في جبهة التحرير وتم إقصاء كوادر جبهة التحرير من المناصب العسكرية والأمنية والسياسية، وتعرض العديد من قادتها وأعضائها للملاحقة والاعتقال والاختفاء القسري، بينما فر آخرون إلى الخارج، بهذه الخطوة وضعت الجبهة القومية يدها على مفاصل الدولة كاملة، لتبدأ مرحلة حكم الحزب الواحد متبنية النموذج الاشتراكي الماركسي، مما عزز عزلتها محليا وإقليميًا ودوليًا، وكان أحد العوامل التي أدت لاحقًا إلى حرب 1986 الأهلية، وتوالت بعدها الأحداث المأساوية إلى اليوم.


تبقى ثورة 14 أكتوبر منارة في تاريخ اليمن، شاهدة على أن شعبًا بمحض إرادته استطاع طرد أقوى إمبراطورية، لكن دروسها المريرة تظل حية، فتذكّرنا أن أعظم انتصار للعدو ليس عندما يحاربك، بل عندما ينجح في نثر بذور الفرقة بين اللحمة الواحدة.

الدرس الأهم الذي يجب أن نستوعبه ويستوعبه الجميع، أن تحرير الأرض هو نصف المعركة ويبقى النصف الأصعب، في تحرير الإرادة من نزعات الهيمنة، وبناء مؤسسات تقبل الآخر وتحتوي الاختلاف، إنها قصة مجد تليها قصة انكسار، تظل تذكرة للأجيال بأن الحرية شجرة لا تنمو إلا بتراب الوحدة، وتسقى بماء التسامح والعدل.

مقالات الكاتب