الأسرار الحقيقية شهرُ رَجَبْ: ماذا أغفلنا عنه؟
مقبلون على أولِ الأشهرِ الحُرُم (شهرُ رَجَبْ)شهرُ رَجَبْ من الأشهر الحرم التي اختصها اللَّه تعالى بم...
مقبلون على أولِ الأشهرِ الحُرُم (شهرُ رَجَبْ)
شهرُ رَجَبْ من الأشهر الحرم التي اختصها اللَّه تعالى بمزيد من التعظيم، قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ).[التوبة: ٣٦].
شهرُ رَجَبْ هو شهر البَذْرِ، شهرٌ تتتضاعفُ فيه الحسنات، والذنبُ فيه عظيم، أكثروا من الأعمال الصالحة، واجتنبوا المعاصي ولا تظلموا أنفسَكم بكثرةِ الذنوب.
- وكما قال عنه الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه: شهرُ رجب مفتاحُ أشهرِ الخيرِ والبركةِ.
فضل شهرُ رَجَبْ
يُعرف شهرُ رَجَبْ بـ "الأصب" لأن اللَّه يصب فيه الرحمة صباً، ويُسمى أيضاً "الأصم" لأنه لم يكن يُسمع فيه قعقعة السلاح (لحرمة القتال فيه). وهو الموسم الأول للزرع، حيث يُقال:
(رَجَبْ شهر الزرع، وشعبان شهر السقي، ورمضان شهر الحصاد)، هذا القول ليس حديثاً نبوياً، بل هو أثر من كلام السلف، تصويرٌ رمزي لحياة القلب مع الزمن يستفاذ من معناه في الاستعداد لرمضان بالتدرج في الطاعة.
وقد سُمي شهرُ رَجَبْ (رَجَبْ الأصم) لأنهم كانوا يمتنعون عن القتال فيه فلا يسمع فيه صوت سلاح، وسُمي (رَجَبْ الفرد) لأنه منفصل عن بقية الأشهر الحرم الثلاثة المتتالية (ذو القعدة، ذو الحجة، محرم).
ومن فضائل ومميزات شهرُ رَجَبْ :
(١) شهر حرام: يحرم فيه القتال إلا ردًا للعدوان، وتُغلظ فيه العقوبة على المعاصي، كما تُضاعف فيه الحسنات.
(٢) شهر الإسراء والمعراج: على الراجح من أقوال أهل العلم أن حادثة الإسراء والمعراج العظيمة وقعت في شهرُ رَجَبْ، وهي من أعظم معجزات النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماوات العلى.
(٣) شهر الدعاء والاستغفار: كان السلف الصالح يكثرون من الدعاء والاستغفار في الأشهر الحرم عموماً، وفي رَجَبْ خصوصاً.
(٤) شهر التوبة والرجوع إلى اللَّه: لما كان من الأشهر الحرم، فهو فرصة عظيمة للتوبة النصوح والبدء صفحة جديدة مع اللَّه.
(٥) شهر الصيام: وردت أحاديث في فضل الصيام في الأشهر الحرم، ومنها رَجَبْ، لكن ليس هناك حديث صحيح يثبت فضلاً خاصاً لصيام أيام معينة فيه غير أنه من الأشهر الحرم. وقد كان عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ينهى عن صيامه كاملاً مخافة التشبه بالجاهلية، ولكن الصيام فيه كصيام النوافل عامة له أجر عظيم، خاصة أيام الاثنين والخميس، والأيام البيض (1١٣، ١٤، ١٥).
مكانة شهرُ رَجَبْ في الثقافة الإسلامية، وما ورد فيه من أحاديث وآثار، والبدع التي علقت به، والموقف الشرعي الصحيح منه :
أولاً: مكانة رَجَبْ في الشرع والتاريخ
(١) من الأشهر الحرم: هو الشهر السابع من السنة القمرية، وواحد من الأشهر الحرم الأربعة التي قال اللَّه تعالى فيها: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ).[التوبة: 36]. وهي: ذو القعدة، ذو الحجة، محرم، ورَجَبْ.
(٢) تعظيم العرب له قبل الإسلام: كانت العرب تعظم هذه الأشهر وتحرم القتال فيها، وقد أقر الإسلام هذا التعظيم وزاد عليه بتحريم الظلم فيهن تشديداً.
ثانياً: فضائل ثابتة أو محتملة لشهرُ رَجَبْ :
(١) وقوع الإسراء والمعراج فيه على الراجح: ذهب جمهور العلماء من المحققين (كالنووي وابن حجر) إلى أن حادثة الإسراء والمعراج وقعت في شهرُ رَجَبْ، وذلك قبل الهجرة بعام واحد. وهذه الحادثة من أعظم آيات اللَّه تعالى، حيث أسري بالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماوات السبع، وفرضت فيها الصلوات الخمس. وقد ذكر هذه الفضيلة عدد من المؤرخين والمحدثين، وإن كان لا يوجد حديث صحيح مرفوع يحدد شهرها تحديداً قاطعاً.
(٢) شهر العبادة والتقوى: بما أنه من الأشهر الحرم، فإن العمل الصالح فيه عظيم الأجر، والظلم فيه أعظم إثماً. وكان السلف الصالح يغتنمون هذه الأشهر في زيادة الطاعة، كما ورد عن بعض التابعين.
(٣) الصيام فيه: وردت أحاديث عامة في فضل الصيام في الأشهر الحرم، منها قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتْرُكْ).[رواه أبو داود وصححه الألباني]. وبعض العلماء يستحب صيام شيء منه، دون تخصيص أيام معينة بصفة معينة. أما صيامه كاملاً فمكروه عند بعض العلماء (كقول عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) خشية التشبه بأهل الجاهلية الذين كانوا يعظمونه تعظيماً خاصاً.
ثالثاً: الأحاديث الواردة في فضل شهرُ رَجَبْ بين الصحة والضعف :
➖➖➖➖➖
- أحاديث ضعيفة أو موضوعة كثر تداولها :
· (رجب شهر اللَّه، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي).
· (من صام من رجب يومًا إيمانًا واحتسابًا، استوجب رضوان اللَّه الأكبر).
· (إن في الجنة نهرًا يقال له رجب، من صام يومًا من رجب سقاه اللَّه من ذلك النهر).
· كلها أحاديث لا تصح عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل هي موضوعة أو شديدة الضعف.
- ما ثبت من السنة العامة التي تشمله :
(١) فضل الصيام عامة، وفضل الصيام في الأشهر الحرم.
(٢) فضل العمرة، وقد اعتمرت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا في رَجَبْ، ولما نُسب لها تخصيصه قالت: (ومن قال إن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر في رجب؟! ولكني اعتمرت مع رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أشهر الحج).[رواه مسلم]. مما يدل على أن التخصيص يحتاج إلى دليل.
رابعاً: البدع والمحدثات التي انتشرت في رَجَبْ :
لشهرُ رَجَبْ حظ وافر من البدع التي ابتدعها الناس عبر العصور، ومنها:
(١) صلاة الرغائب: وهي صلاة تقام في ليلة أول جمعة من رَجَبْ، بين المغرب والعشاء، وعدد ركعاتها معينة بقراءات معينة. وهي بدعة محدثة لم ترد عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن أصحابه، وقد حذر منها العلماء كالإمام النووي وابن تيمية.
(٢) الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج: بإقامة الموالد والاجتماعات وقراءة قصة المعراج في ليلة السابع والعشرين منه. وهذا الاحتفال بتلك الليلة بتلك الكيفية بدعة محدثة، لم يفعلها النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا الصحابة ولا التابعون. وفرق بين تذكر الحدث وتعظيمه، وبين إقامة طقوس ومواسم سنوية بدعية.
(٣) الذبح في رَجَبْ (العتيرة): كان أهل الجاهلية يذبحون ذبيحة يسمونها "العَتيرة" في رجب، وقد جاء في الحديث: (لا فرع ولا عتيرة).[متفق عليه]، أي لا ذبح في رجب على هذه الصفة الجاهلية.
(٤) التصدق على أرواح الموتى خصوصاً في رَجَبْ: وتخصيص ذلك بشهر معين دون غيره بدعة.
(٥) زيارة مقبرة البقيع أو غيرها تخصيصاً في رَجَبْ: مع اعتقاد فضل خاص لتلك الزيارة في هذا الشهر.
(٦) صيام أيام معينة على وجه الاعتقاد بفضل خاص: كصيام (٢٧ رَجَبْ) ظناً أنه يوم المعراج.
خامساً: الموقف الشرعي الصحيح من شهرُ رَجَبْ :
➖➖➖➖
(١) تعظيمه بما عظمه اللَّه به: وذلك باجتناب المعاصي والظلم فيه، لأنه من الأشهر الحرم، قال تعالى: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ).[التوبة: ٣٦].
(٢) الاجتهاد في الطاعات العامة: كالصدقة، والصيام النافلة، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، من غير تخصيص له بشيء لم يرد في الشرع.
(٣) التنبيه على البدع والتحذير منها: من مسؤولية العلماء والدعاة بيان ما أحدثه الناس في هذا الشهر من بدع، وكشف زيف الأحاديث الموضوعة.
(٤) التركيز على الفرائض والمواسم الثابتة: كالصلوات الخمس، ورمضان، والعشر من ذي الحجة، وغيرها من العبادات المؤكدة.
(٥) عدم تخصيصه بعبادة معينة: فلا يصح تخصيص ليلة من لياليه بقيام، أو يوم من أيامه بصيام، أو ذبح ذبيحة له، إلا بدليل صحيح، ولا دليل.
سادساً: كلام العلماء المحققين في شهرُ رَجَبْ :
· قال الإمام ابن تيمية رحمه اللَّه: يقول: (لم يثبت في شهرُ رَجَبْ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديث صحيح في صيامه ولا قيامه ولا في ليلة مخصوصة منه)، وأما تخصيص رَجَبْ وشعبان بجميع أنواع العبادات من الصلاة والصيام وغير ذلك، فليس عليه دليل شرعي... والصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم: أن ذلك كله بدعة.
· ابن القيم رحمه اللَّه: يذكر في "زاد المعاد" أن جميع الأحاديث في فضل شهرُ رَجَبْ وكذا صيامه موضوعة على رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
· ابن حجر العسقلاني رحمه اللَّه: له رسالة اسمها "تبيين العجب بما ورد في فضل رَجَبْ"، بين فيها ضعف كل ما ورد في فضله من أحاديث.
خلاصة
شهرُ رَجَبْ شهر كريم لكونه من الأشهر الحرم، وهذا يكفيه فضلاً. والمسلم يعظمه بترك المعاصي والإكثار من الطاعات العامة التي لا تخصيص لها، دون أن يلتفت إلى البدع والمحدثات، أو يصدق الأحاديث الضعيفة والموضوعة. وأعظم ما يُعمل في هذا الشهر: التوبة النصوح، والإقلاع عن الذنوب، والمسارعة في الخيرات، والاستعداد لشهر رمضان المقبل، فهو شهر يسبق شعبان ورمضان، فيكون كالمقدمة والمزرعة للطاعة.
دعاء استقبال شهرُ رَجَبْ
من الأدعية العامة المأثورة والطيبة لاستقبال شهرُ رَجَبْ:
- لطلب البركة: (اللَّهُمَّ بارك لنا في أوقاتنا وأعمالنا في هذا الشهر الكريم، وأعنا فيه على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).[متفق عليه].
- لطلب المغفرة: (اللَّهُمَّ إنك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عنا، اغفر لنا ما مضى وأصلح لنا ما بقى).[رواه الترمذي].
خاتمة
· الموقف الصحيح ينبغي للمسلم أن يحرص على عبادة اللَّه تعالى في جميع الأوقات، مع زيادة الاجتهاد في أوقات الفضائل الثابتة.
· تجنب البدع والمحدثات، والتمسك بالسنة الصحيحة.
اغتنام الأوقات الفاضلة الثابتة كرمضان، وعشر ذي الحجة، ويوم عرفة، وغيرها.
نصيحة قصيرة: حاول في هذا الشهر الإكثار من الاستغفار والصدقة، لتهيئ نفسك وروحك لنفحات شهر رمضان المبارك.
فينبغي للمسلم أن يعظم شهرُ رَجَبْ بما عظمه اللَّه به، بالإكثار من الطاعات، والأستغفار والصدقة، وترك المنكرات، دون أن يخصه بشيء لم يرد في الشرع، لتهيئ نفسك وروحك لنفحات شهر رمضان المبارك.
نسأل اللَّه أن يعيننا على طاعته، وأن يبصرنا بدينه، ويجنبنا البدع والضلال. 🤲
واللَّه أعلم، وصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 🤲
القاضي أنيس صالح جمعان
١ رجب ١٤٤٧ هـ الموافق ٢١ ديسمبر ٢٠٢٥